شهادة عن المحتشدات


Traduire

عربي-->Engl


محتشد الزيتونة



.
محتشد الزيتونة التي كانت يسميها الاستعمار " بوسومبورغ" هو من آلاف المحتشدات التي أقامها الجيش الاستعماري الفرنسي أثناء الثورة التحريرية الجزائرية إبتداء من 1956. هذه المحتشدات حشر وكدس فيها سكان الدشور والقرى والدواوير وكأنهم حيوانات متوحشة في خيم جماعية صغيرة و متلاصقة على مساحات ضيقة للغاية. كل خيمة لا تزيد سعتها عن 9 أمتار مربعة تضم ثلاث أو أربع عائلات بأطفالها

كانت هذه المحتشدات التي لم تكن تتوفر فيها أدنى الشروط الضرورية للحياة الإنسانية محاطة بسياجات ومحروسة ليلا ونهارا.وذلك بعد أن أحرق قراهم وبيوتهم ودمرها تدميرا كاملا وأفنى مواشيهم وحيواناتهم على آخرها. فلم يترك شيئا في الأرض تدب فيه الحياة إلا وقضى عليه. ثم جعل هذه المناطق الجبلية التي كانت تتركز فيها الثورة التحريرية مناطق محروقة ومحرمة على كل كائن يدب فوق الأرض

كل شيء يتحرك في هذه المناطق يقتل. فالطائرات الاستعلامية لا تغادر سماءها من شروق الشمس إلى غروبها بحثا عن أية دابة تدب في الأرض. والمقنبلات تصول وتجول في سمائها على ارتفاعات منخفضة لاقية بحمم قنابلها الحارقة المدمرة على كل مكان يشتبه فيه

فالسكان الذين تمكنوا من الإفلات من هذه الآلة العسكرية الجهنمية الكاسحة الماسحة التي سوت كل شيء بالأرض كانوا يعيشون في كهوف وخنادق تحت الأرض لا يخرجون منها إلا ليلا. أما الحيوانات النادرة التي أفلتت بقدرة الله من عملية القتل الجماعي كما حصل في سهل وادي الزهور الشهير بثروته الحيوانية الكثيفة. فقد وهبها الله ذكاء خارقا لا يصدقه إلا من رآها رأي العين كيف تتصرف بمجرد أن تسمع دوي الطائرات

فكنتَ ترى الحيوان بقرا أو حمارا أو بغلا أو غيره إذا سمع الطائرة من بعيد أسرع والتجأ إلى أقرب شجرة مازالت قائمة ولم تأت عليها النار بعد بالقرب منه. أما إذا لم تكن هناك أشجار وفاجأته الطائرة وهو في مكان مكشوف، توقف الحيوان عن كل حركة وكأنه جماد وتقوقع على نفسه واضعا رأسه بين قدميه الأمامتين وكأنه كتلة حجرية حتى لا تتعرف عليه الطائرة. فسبحان الله الذي خلق فسوى وقدر فهدى

فقد كانت هذه الحيوانات بما وضع الله فيها من قدرات حسية قوية تفوق ما لدى الإنسان دليلا ومعلما لهذا الإنسان بحيث كان المرء إذا رأى الحيوان يحاول الاختباء أو يتوقف عن الحركة فعليه أن يلجأ بدوره إلى الملجأ في أسرع وقت ممكن. فقد كانت هذه الحيوانات وكأنها صفارات إنذار مسبق إذانا باقتراب الخطر الذي يجب اجتنابه واتقاؤه

أما الماشية التي قضى عليها الاستعمار في سهل وادي الزهور وأخص سهل وادي الزهور بالذكر لأني من مواليده وكنت شاهدا على عملية الإبادة التي وقعت فيه. كما أشرنا من قبل، في يوم واحد قام الجيش الفرنسي برشاشات عرباته النصف المجنزرة (هافتراك) بقتل كل الماشية التي كانت ترعى في هذا السهل الفسيح من قرية الخميس الحالية إلى شاطئ بحر وادي الزهور

وعندما رأت والدتي ما أذهلها تركت أختين لي تؤمتين رضيعتين (حفيظة وزبيدة) مع أخي محمد الذي كان يكبرني سنا مختبئين بسفح الجبل بالقرب من السهل، على بعد أمتار قليلة من منزلنا الذي كان يقع في قلب الغابة بمعزل عن بقية القرية، وانطلقت تتحدى الرشاشات تلوذ عن الحيوانات محاولة توجيهها إلى الغابة قبل أن تلحق المدرعات إليها، إلا أن مدرعات العدو أدركتها وهي مازالت في السهل مع الماشية التي كانت تحاول إنقاذها، فانهالت عليها الطلقات النارية من كل جانب وسقطت الحيوانات بالعشرات شهيدة الوطن وسقطت أمي معها منبطحة على الأرض، فظنها الجنود الفرنسيون ميتة فاستمروا في طريقهم حاصدين كل شيء حي أمامهم





إلا أن الله أنجاها وكتب لها حياة جديدة ! فعادت سالمة من حيث أتت فأسرع إليها أخي وهو يحتضن واحدة من إخوتي بين يديه ويحمل الأخرى فوق ظهره وهو لا يصدق عينيه

والعجيب هنا هو أن هذه الحيوانات المجاهدة التي "استشهدت" في سبيل الوطن لم تتعفن ولم تنبعث منها أية رائحة كريهة. بل انتفخت ثم جفت وانكمشت تدريجيا حتى لم يبق إلا الجلد على الهيكل العظمي ثم اندثرت وأضحت ترابا. علما أن عملية الإبادة هذه قد وقعت في فصل الصيف وفي درجة حرارة عالية في وقت كان الناس يستعدون فيه للحصاد

فمن كان لديه تفسير علمي لهذه الظاهرة العجيبة التي تخالف نواميس الطبيعة فليفدنا به. وهكذا نرى أن كل كائن حي من بشر وحيوان ونبات دفع في الجزائر المجاهدة ثمنا غاليا من اجل الاستقلال والحرية أملا في غد مشرق تسوده الأخوة والعدالة والمساواة ! فأدنى حيوان من الكلب الى الحصان في الجزائر المجاهدة كان مجاهدا ومات شهيدا فداء للوطن والحرية والإسلام والعربية! شعب الجزائر مسلم والى العروبة ينتسب من قد حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب ! اذن التفرقة بين ما يسمون بالمجاهدين وغير المجاهدين بعد حرب التحرير لا أساس لها من الصحة. فالفرق الوحيد هو بين الشهداء وبين الذين لم يستشهدو

هذه المحتشدات الوحشية اللانسانية التي يسميها الاستعمار "مراكز تجمع" متلاعبا بالألفاظ تخفيفا لوطأتها والتستر على حقيقتها الجهنمية التي تصدم الضمير الإنساني بفظاعتها، جاءت كرد فعل استعماري لنظرية الثورة الشعبية التي تقوم على أساس التلاحم والتكامل العضوي الكلي بين الشعب والمجاهدين المقاتلين الذين يحملون السلاح في وجه الاستعمار. فالمجاهد يعيش بين الشعب كالسمكة في الماء

حسب المؤرخين فقد بلغ عدد السكان الذين هُجِّرُوا من قراهم الأصلية وحشدوا في محتشدات ومراكز تجمع سكانية ما يزيد عن ثلاث ملايين ونصف نسمة بمعنى آخر يقول ميشال كورناتون (Michel Cornaton) : " أن 40% من سكان الجزائر آنذاك قد أجبروا على ترك مساكنهم"

فبعد التجربة الاستعمارية المريرة في فيتنام حيث انهزم الجيش الاستعماري شر هزيمة في معركة ديان بيان فو سنة 1954، أراد ضباط الجيش الاستعماري الفرنسي الذين عادوا من هناك منهزمين أن ينتقموا شر انتقام لهزيمتهم من الشعب الجزائري بحيث لا تتكرر هزيمتهم في الجزائر مرة أخرى

فكانت خطة هذه المحتشدات التي تهدف إلى تجفيف هذا الماء الذي يغذي السمك. فيكون مصير السمك الموت والاستسلام. وهكذا تفشل الثورة ويخضع الشعب الجزائري أبديا إلى السيطرة الاستعمارية. ولكن النتيجة لم تكن كما توقعوا بل معاكسة تماما لما توقعوا. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين

فهذه المياه المتناثرة المتفرقة عبر المداشر والتي لا تكاد تسد الحاجات الضرورية للمقاتلين إلا بشق الأنفس، لان الفلاحين فقراء معدمون وكانوا يتحملون العبْء الأكبر للثورة، هذه المياه الضعيفة أصبحت سدا يستطيع السمك أن يحي فيه بسهولة أكثر. فالجيش الاستعماري بتجميع السكان في محتشدات جعل من هذه المحتشدات سدودا يختفي فيها السمك ويقتات منها وعلى حساب الاستعمار نفسه

فبالرغم من أن ما كان يُعْطَى لهم من الإدارة الاستعمارية لا يكاد يسد الرمق إلا أن هؤلاء القرويين الذين أعتادوا على شظف العيش كانوا، بدافع حبهم للوطن والدفاع عليه وتضامنا مع إخوانهم المجاهدين، الذين كانوا جزءا لا يتجزأ منهم، يقتصدون و يوفرون ويؤثرون على أنفسهم إخوانهم في جيش التحرير الوطني ولو كان بهم خصاصة

من التداعيات الايجابية الأخرى لهذه المعسكرات والمحتشدات هي زيادة التلاحم والتقارب بين سكان المداشر والعشائر بل وحتى بين أفراد العشيرة الواحدة. فكان الناس موزعين في قمم الجبال وشعابها كل مشغول بقوت يومه. فإذا بالجيش الاستعماري يأتي فيجمعهم في مكان واحد وأحيانا تحت سقف واحد فيجعل منهم أسرة واحدة متضامنة ومتماسكة الأواصر والمشاعر والأهداف و المصير. فكلهم في الهم غرق. إما أن يموتوا معا أو ينجوا معا

فزادتهم هذه المحتشدات قوة وعزما وإرادة على النصر لأنهم أصبحوا لا يخشون شيئا لان ليس لديهم ما يخافون عليه. بيوتهم هدمت وحيواناتهم قتلت وأملاكهم أحرقت و غلالهم أتلفت. فلم تبق لهم إلا أرواحهم وهذه الأرواح والنفوس بأيدي خالقها. فلماذا الحرس عليها ؟ لاسيما بان الموت أصبح لكثيرين منهم خلاصا ونهاية لكل شر وبداية لكل خير ونعيم في جنة رب العالمين: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون

فقد أصبحت هذه المحتشدات عبارة عن حظائر حيوانات أو معسكرات رهائن يأخذ منها الجيش الفرنسي ما يشاء حيث يشاء وفي الوقت الذي يشاء ليشفي غليله بالقتل والتنكيل كلما تلقى ضربات موجعة من جيش التحرير الوطني

فقد كان يأتي جنوده إلى المعسكر ليلا ويختارون ضحاياهم فيذهبون بهم مقيدين مكبلين فيُنكل بهم ثم يُقتلون رميا بالرصاص على حافتي الطريق الفرعي الواصل بين مدينة الزيتونة ومدينة القل وفي الصباح يذهب الذين لم يقضوا حتفهم بعد ليواروا إخوانهم التراب. وهكذا دواليك

فالجيش الفرنسي كان يطبق ما يعرف بالمسؤولية الجماعية. فبدلا من مواجهة المجاهدين المسلحين في الجبال كان يأتي ليثأر من المدنيين العزل الذين جعلهم رهائن لديه. فبالنسبة له لا فرق بين مدني وعسكري وبين محارب وغير محارب بين الجزائريين

المحك الوحيد هو الانتماء للجزائر. فكل من ينتمي لهذا الوطن "فلاق" من "الفلاقة" أي جندي من جنود جيش التحرير الوطني كما كان يسميهم احتقارا. و "الفلاغة" هم قطاع الطرق الذين يستعملون الفلقة أي العصي لمهاجمة المسافرين الآمنين. وشتان بين الثرى والثريا

هذا الخلط بين كل أفراد الشعب الجزائري ليس وليد الصدفة بل هو منهج استعماري دائم ومستقر منذ أن وطئت أقدامه الجزائر. فعلى مدى طوال الليل الاستعماري الذي دام 132 سنة لم يتصرف الجيش الاستعماري إلا بمنطق القوة والوحشية والقتل والحديد والنار وسفك الدماء والدمار ولا يعرف لغة أخرى غير هذه اللغة






لان هذه هي طبيعته وغايته التي كان يسعى لتجسيدها ميدانيا. فقد كان استعمارا استيطانيا غايته مسح شعب بأكمله واستبداله بشعب آخر أي إحلال شعب لاتيني محل شعب عربي مسلم على أرض الجزائر وضمها إلى الإمبراطورية الفرنسية. أي كان يريد أن يكرر ما حصل للهنود الحمر الذين أصبحوا أجانب وغرباء في وطنهم أمريكا بينما أصبح البيض المحتلون هم أصحاب البلد

فقد بلغت به العجرفة والغطرسة بان يعلن الجزائر أرضا غير مأهولة وغير مسكونة لشعب يريد أرضا. فكانت سياسة الأرض المحروقة وكانت سياسة القتل الجماعي وكانت سياسة سلب الأراضي الخصبة وإبعاد أهلها الأصليين إلى الجبال وكأنهم حيوانات متوحشة لإفساح الطريق أمام المستعمرين المستقدمين من فرنسا وأوروبا لكي تكون الجزائر أرضا لاتينية اللغة والثقافة والانتماء والهوية. يقول أحد جنرالات الاستعمار يسمى بليسييه : مقارنة بالأوروبيين، فان العرب والبربر هم بلا شكل من عرقيات واصول منحطة و منحلة

إلا أن الله أراد ما أراد وإرادته هي العليا وكانت الغلبة للشعب المستضعف الذي كسر القيد وتحرر. فقد أثبت الشعب الجزائر بأنه أقوى من كل المحن و أقوى من كل الصعاب و أقوى من آلة الموت والدمار الاستعمارية بفضل إيمانه بالله وإيمانه بوطنه وبعدالة قضيته. وخاض خطوب الحروب التحريرية الواحدة تلو الأخرى حتى خرج في النهاية منتصرا مكللا بالمجد والحرية والاستقلال : إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر- ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
فقد عشت شخصيا ما يزيد عن سنة كاملة من حياتي كطفل تحت خيمة صغيرة مستديرة الحجم تتقاسمها عائلتي مع عائلة أخرى في محتشد الزيتونة الذي يطلق عليه محتشد "الكليتوس" . والزيتونة هي مدينة صغيرة تقع بين جبل الكوفي (العامة تقول خطأ "الغوفي" نسبة إلى أحد أئمة الإسلام الأوائل قدم من الكوفة ودفن على قمة هذا الجبل) وبين مدينة القل الساحلية التي لا تبعد عنها إلا بأربعة عشر كلم 14


Cliquer sur les photos pour agrandir



يأتي اسم هذه المدينة، التي أصبحت في عهد الاستقلال بلدية الزيتونة، من زيتونة ضخمة متعددة الأغصان والأفنان وهي زيتونة عتيقة لها مئات السنين تقع على ربوة مطلة على الوادي الذي ينزل من جبل الكوفي وهي مازالت قائمة إلى يومنا هذا بالقرب من المقبرة التي تضم مئات الشهداء ومن بينهم أختي حفيظة السالفة الذكر، حيث توفاها الله ذات ليلة بعد صراع طويل مع المرض من جراء الجوع والبرد والهوان. رحمك الله يا أختي ورحم كل الشهداء والمؤمنين

قبل أن أصل إلى هذا المحتشد، كنت أعيش حياة وديعة مع عائلتي التي تنتمي إلى قبيلة أولاد أعطية النازلة من سيد الخلق محمد بن عبد الله الأمين، هذا الانتماء تثبته وثائق تاريخية أكدها مؤرخون فرنسيون (انظر هذه الوثيقة في رابطة موقع الغوفي)

كانت عائلتي ميسورة الحال من الناحية المادية، فقد كان جدي دريوش الطاهر تاجر ماشية كبير ومعروف على مستوى الشرق الجزائري كله. إلى جانب ذلك فقد كان نصف العائلة يقطن بقسنطينة منذ عشرات السنين وكان لجدي إخوة له، أحدهم بأمريكا (محمد) والثاني بباريس (إبراهيم) والثالث بقسنطينة (صالح) كان الأخير سائقا لحاكم (الوالي أو البريفي) ولاية القطاع الشرقي للجزائر (كانت الجزائر مقسمة إلى ثلاث ولايات فقط: قسنطينة، الجزائر، وهران) كما كان في وقت من الأوقات سائقا للضابط الفرنسي جوان الذي أصبح فيما بعد مشيرا (ماريشال)

أي يمكن القول أن جدي كان من أعيان البلد وكان صديقا لأغنى شخصية جزائرية في ناحية القل أحمد بغلول وكان كثيرا ما يتردد على منزلنا الخوجة وأعيان إدارة الأهالي (les Indigènes ) آنذاك

في ذلك الوقت كان لدينا جهاز راديو كبير يشتغل بالبطاريات وكان معظم سكان القرية يأتون يقضون سهرتهم حوله مستغربين كيف يتكلم صندوق خشبي، فكان الكثير منهم يدورون حوله قبل جلوسهم مع بقية الناس لعلهم يرون من يتكلم فيه! كما كان في منزلنا أسرة ومطارح وأشياء غير معهودة في القرى في ذلك الوقت


كان منزلنا يقع في قرية أولاد الناصر على قمة جبل يسمى "الشوف" بحيث في رمضان كان المؤذن يشعل النار أمام الغرفة المخصصة لتخزين التبن وعلف الحيوانات لكي تراها القرى الأخرى وتؤذن بدورها

كنتُ كل صباح أفتح عيني على منظر سحري خلاب بالمعنى الكامل للكلمة. منظر شاطئ وادي الزهور ورماله الذهبية غربا وجبال شاهقة يتصدرها ويعلوها جبل الكوفي شرقا. فهذا الجبل المهيمن على بقية الجبال كان يتميز بمعطفه الأبيض من الثلوج التي كانت تغطيه في معظم شهور السنة

أما من الناحية الجنوبية فكنت أرى سهل وادي الزهور الأخضر بحدائقه وأشجار الزيتون المباركة التي تغمره ونهره الكبير الذي يقطعه في إلتواءات وانعراجات وكأنه ثعبان ضخم يزحف إلى البحر، تاركا خلفه الخير والنماء والبهجة والهناء

أما في المساء فكنا نتأمل غروب الشمس وقد أخذت لونا قرمزيا وهي تنزل في الأفق رويدا رويدا في البحر، بعد أن عادت الحيوانات إلى حظائرها في صفوف منتظمة ومنسقة وكأنها جنود مصففة ومدربة في هدوء وتؤدة تتبادل نداءات الحنين والحب مع صغارها التي بقيت محبسة في المنازل. ما أ عظمه وما أروعه من منظر

فكل حيوان كان يحمل اسما خاصا به ينادى به وكنا نتقاسم هذه الحيوانات وصغارها بحيث كان كل فرد في الأسرة يفتخر بما لديه منها وكان يحبها حبا جما ويسعد لسعادتها ويحزن لحزنها ويتألم كثيرا إذا ما أصابها مكروه. أما في الليل فكنا ننام على نغمات عواء الذئاب وهي تتنادى من كل الشعاب والجبال... ما أحلاها من أيام

وصدق الله العظيم الذي قال : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون النحل،5-8


هذه المناظر مازالت منحوتة في مخيلتي نحتا لا تعتريه شوائب الشهور والسنين. كما مازالت عالقة بأنفي لحد الآن الروائح الطيبة للأرض وهي تحرث و العطور الزكية التي كانت تنبعث من رياحين الغابات والزيتون عند قطفه وجمعه وعصره حسب الطرق التقليدية القديمة. مازلت أرى العمال الذين أتى بهم أبي وهم يكدون ويكدحون ليجعلوا من أراض غابية غير صالحة للزراعة حقولا للقمح والشعير والفواكه المتنوعة. كنا كلنا أمل في العيش السعيد في بلدنا وبين أهلنا وماشيتنها. ولكن ذات يوم كل شيء انتهى ...! وكل شيء توقف إلى الأبد...! بوصول جنود إلى منزلنا بغتة ! كانوا مدججين بالسلاح منهم الأشقر ومنهم الأسمر ومنهم الأسود

أولا، فقد كادوا أن يفتكوا بأخي محمد السابق الذكر الذي كان يستند إلى شجرة فلين (بلوطة) بالقرب من المنزل مرتديا معطفا زاد في طوله وجعله يبدو وكأنه رجل. فإذا بأمي التي رأت العسكر يوجهون فوهات بناديقهم لابنها، تصيح صيحة واحدة مازالت مدوية في أذني: "يا ابني شَهَّدْ وطِحْ" ! مع هذه الصيحة تدخل جندي آخر كان خلفهم و يبدو انه كان ضابطا لكي يمنعهم من قتله (علمنا فيما بعد بأنه كان من باريس). ثم قبضوا على والدي وأرسلوه الى مركز القيادة العسكرية التي بقيت بالقرية التي ولدت بها، أولاد الناصر بالشوف

ومع غروب الشمس فإذا بنا نراه عائدا الى المنزل يسير بحذر كبير في طريق ضيق عبر الغابة رافعا يديه فوق رأسه وهو يلوح من حين الى أخر بورقة بيده. هذه الورقة هي في الواقع الإذن بالعودة الى منزله الممنوح من طرف القيادة العسكرية وهو نوع من إخلاء السبيل. لكي لا يتعرض له جيش الاحتلال بالأذى بعد أن علموا انه كان بباريس يعمل وقد أجريت له عمليتان جراحيتان جعلتاه عاجزا عن أي نشاط مهني وهو بالتالي من المستبعد أن يكون من "الفلاقة". أمي التي كانت تتكلم بصوت عال كانت تقول: "أتمنى ان يعرفوا بانه هو وان لا يطلقوا الرصاص عليه". في الغد ونحو الساعة العاشرة، فجأة ! غادر جنود هذه المجموعة العسكرية التي قضت الليلة بالقرب من المنزل كما جاءوا بغتة. كل هذا يجري وانأ لا أفهم تماما ما يدور...؟

ومرت أيام وأسابيع بدون أن يحدث شيء يذكر. حتى جاء يوم فاذا بالسماء تمتلئ بالطائرات من طراز ب 38 مدوية تصم الأذان وتهز القلوب وتحرك الأشجار والأرض تحت اقدام الناس بما تحدثه من دوي وصخب وضجيج مرعب وبما تصدره انفجارات قنابلها من صدى. في لحظة عين انقلبت الدنيا الى جحيم...! فما كان علينا الا الهروب الى الغابة حيث قضينا الليل في مغارة طبيعية. ورجع الهدوء من الجديد ولكن لم يطل طويلا

ذات صباح فإذا بطائرات ب 38 وب 26 تعود بكثافة إلى سماء وادي الزهور متبوعة هذه المرة بطائرات إنزال المظليين فإذا بسماء سهل وادي الزهور يمتلئ بالمظليين. لم يسبق أن أرى احد هناك عملية إنزال مظليين كثيفة بهذا الشكل وكأنهم رجال نزلوا من السماء في خضم ضجيج يصم الآذان. هذا المنظر الرهيب أرعبني وجعلني أترك أهلي وإخوتي وأمي وأبي وأنطلق تائها في الغابة لا أعقب على شيء

رأيت الناس يفرون من السهل ويتجهون نحو الغابة في اتجاء مدينة "الملعب" الآن، فتبعتهم وانا لا ادري ما أفعل. وبعد عدة كيلومترات رأتني امرأة تعرفني فقالت لي : "رابح ماذا تفعل هنا ؟ عد الى الزربية"، أي الى المكان الذي كان به منزلنا على منأى من القرية التي ولت بها

ولكني لما عدت لم أجد عائلتي. فلا أحد بالمنزل. فما كان يسعني إلا أن عدت إلى الغابة حيث عشت بمفردي تائها قرابة أسبوع كامل قبل أن يجدني بعض أقاربي منهكا عطشا وجوعا لا استطيع الكلام فاعادوني الى عائلتي التي كانت مختبئة غير بعيد من المنزل. فكان غذاء نا زيت الزيتون والقليل من الحنطة. الغارات المتكررة للطائرات على بني فرقان، ومشاط وأولاد عطية بجميع انواع القنابل بما فيها النبالم كانت تجبرنا على تغيير مخابئنا يوميا

بينما نحن على هذا الحال فإذا بمناد ينادي من قمة جبل الشوف الذي كانت به قريتنا أولاد الناصر التي أصبحت أثرا بعد عين بعد أن قام الجيش الفرنسي بحرقها بالكامل وهدم أسوار منازلها وحمل ما قبض عليه من سكانها الى معسكر الطرس الواقع على مسافة 7 كلم من مدينة الزيتونة في اتجاه وادي الزهور


هذا المنادي، اتضح فيما بعد انه كان أبي نفسه كان يقول : "أخرجوا فان الجيش يعطيكم الامان اذا خرجتم وتجمعتم بمنعرج الجبانة على حافة الطريق المؤدية الى القل". في الواقع فان أبي كان يردد ما قيل له من طرف اخوة من الزيتونة

فأبي الذي كان مختبيئا مع الشيخ الامام بوفتاتة سي محمد رحمهما الله قد خرج للطريق وأوقف شاحنات مدنية تابعة لشركة استغلال الغابات مسخرة لخدمة الجيش كان يسوقها هؤلاء الاخوة الذين كان يعرفهم معرفة جيدا وسألهم إلى اين حمل العسكر السكان الذين قبض عليهم فاخبروه بان الجيش الفرنسي هذه المرة لن يترك أحدا خارج المعسكرات العسكرية وانه أعطى مهلة للمدنيين لكي يخرجوا الى الطرقات فتأتي الشاحنات لتنقلهم الى هذه المعسكرات

فاجتمع الناس ليلا بعين أبو الورد في الوادي الفاصل بين أولاد الناصر وبوبارون وقرروا الخروج غداة ذلك اليوم

تحت وطأة الجوع خرج الناس شيوخا واطفالا، رجالا ونساء إلى المكان المحدد في جو من البكاء والحزن والأسى لا يوصف. وفي حوالي الساعة الثالثة ظهرا فإذا بشاحنات GMC أراها لأول مرة تتوقف أمامنا فتحملنا الى المجهول. وعلى الطريق كانت تحمل أناسا آخرين لينضموا إلينا وبعد ساعات من السير وصلنا مع غروب الشمس الى معسكر الطرس السابق الذكر حيث أنزلنا ووضعنا كالحيوانات في بنايات فارغة حيث قضينا الليل ملتحفين الأرض من تحتنا والقرميد من فوقنا. من حسن الحظ إننا كنا في فصل الصيف. الا ان الخوف من المجهول وبما ينتظرنا جعلنا رغم التعب والإرهاق ننسى النوم


في الغد، ذهبت مع أخي لنجمع معا نبات السرخس (يسمى "السميسر" باللهجة الدارجة أو فوجير بالفرنسية) وهو نبات يشبه عسف النخل لنفترشه إلا ان طلقات رصاص من الجيش الفرنسي أرعبتنا وأعادتنا سريعا إلى المعسكر. ثم عرفنا بان هذه الطلقات لم تكن موجهة لنا ولكن لأبقار كانت مارة بالقرب من المعسكر. وتوالت الايام ونحن نعاني الأمرين في ظروف قاسية جدا بمعسكر الطرس. وذات يوم حملنا الجيش الفرنسي في شاحنات GMC توجهت بنا نحو الزيتونة حيث وصلنا بعد الظهر اليها، فانزلنا هناك ووضعنا في خيم كانت مقامة في محتشد الكليتوس حيث وَجَدْتُ أقارب لي هناك كانوا قد سبقونا الى المحتشد في ملابس بالية وممزقة يرثى لها. تواجدهم هناك جعلني أطمئن شيئا ما وان كانت الحياة والموت أصبحت بالنسبة للجميع سيان

بعد أيام قليلة اصطحبت أمي في جولة لطلب العون من بعض عائلات بني اسحاق القاطنة بالزيتونة فاستقبلونا أحسن استقبال ومدوا لنا يد العون والمساعدة في كل شيء من أواني الطبخ الى الأغطية. فهذه مناسبة لكي أشيد بإخواننا بني إسحاق الذين استقبلونا وأعانونا بكل ما أوتوا من إمكانيات تضامنا معنا. و أخص بالذكر هنا عائلة بولمعيز علي صديق جدي الطاهر والذي كان رسميا دركيا لدى فرنسا وباطنيا مجاهدا في سبيل الوطن حتى مات شهيدا

فقد عرف الجيش الفرنسي ما يقوم به في خدمة قضية التحرير فقتله بعد تعذيبه. للأسف بعد الاستقلال لم يعترف به كمجاهد أو شهيد لانه كان رسميا وشكليا دركيا كما قلت لدى فرنسا. فهذا الرجل العظيم قام بأعمال بطولية من اجل تخليص الكثيرين من انياب المستعمر وأنجى الكثير من أفراد الشعب والمجاهدين من الموت المحقق. وقتله من طرف الجيش الفرنسي لدليل قاطع على صدق وطنيته وإخلاصه لوطنه وشعبه. رحمه الله ورحم كل الشهداء الذين سقطوا من أجل الوطن

بعد أن استقر بنا الأمر في الزيتونة بدأ جدي الطاهر المعروف بنشاطه الدؤوب يمارس تجارة الجزارة حتى يساعدنا على التغلب على نوائب الدهر استعدادا للهروب الى قسنطينة والإفلات من قبضة الجيش الفرنسي

فإني لا أنسى أبدا ما شاهدته من بؤس وشقاء أبناء الجزائر عامة والأطفال خاصة في محتشد الكليتوس، فقد كان هؤلاء الأطفال الذين كانوا شبه عرايا ينتظرون كل يوم سيارة قمامة الجيش الفرنسي لينطلقوا وراءها مسرعين لعلهم يجدون في مخلفات جنود الاحتلال ما يسدون به الرمق. فان الوضع في المعسكر لا يمكن ان يوصف. التفتيش،التجويع، التعذيب، القتل

يقول الصحفي بيار مكينPierre Macaigne في صحيفة "لوفيغارو" الصادرة سنة 1959 : منذ ثمانية شهور لم يتم توزيع اية مواد دهنية ، من اجل مواجهة هذا النقص قام الصليب الأحمر بتوزيع 100 لترا من الزيت." ويتساءل الصحفي فيقول : "ولكن ما فائدة 100 لتر من الزيت موزعة على 2774 شخصا؟
وكتب الله لعائلتي النجاة والخروج من هذا المحتشد سنة 1958 بعد ان تركنا خلفنا اختي حفيظة بمقبرة الزيتونة بعد ان وافتها المنية ذات ليلة قبل طلوع الفجر وهي لا تتجاوز ثلاث سنوات ونصف. فقد ماتت كغيرها من كثير من الأطفال في سنها من الجوع والبرد والمرض وانعدام الرعاية الطبية. لقد استطاع ابي رحمه الله ان يؤجر لنا بيتا بقسنطينة وان يحصل بمشقة كبيرة واجراءات معقدة وحيل لا تعد و لا تحصى على إذن بالمرور لنا جميعا، الواحد بعد الآخر، بفضل مساعدة صديق العائلة السيد كناف يوسف رحمه الله، ضابط سابق في الجيش الفرنسي يعمل في الادارة الفرنسية المشرفة على المحتشد والتي كانت (SAS)تسمى بالفرنسية




بعد صعوبات جمة وتجاوز عدة حواجز للجيش الفرنسي الذي كان في كل مرة يقوم بتفتيشنا ومراجعة اوراقنا والدقيق فيها وصلنا الى القل فركبنا في باخرة صغيرة متوجهة الى سكيكدة لان الطريق البري غير مأمون. ومن سكيكدة توجهنا الى قسنطينة حيث كانت البداية صعبة جدا. أول معرفتي بالمدرسة الفرنسية فكان في اكتوبر 1959 بمدرسة ميشلي حيث درست حتى استقلت الجزائر سنة 1962 وكانت الفرحة الكبرى التي لا تتكرر في حياة الجزائر والجزائريين

وأحي هنا السيد ميشال روكار الذي كتب تقريرا سنة 1959 عن هذه المحتشدات. في حصة إذاعية قال حول هذا الموضوع : " الاضرار الناجمة عن حرب الجزائر ذات شقين: الشق الاول هو انه كان هناك العديد من القتلى والمعذبين والضحايا من المدنيين. أما الشق الثاني فهو ان فرنسا قد غيرت تغييرا كليا بسياسة المحتشدات وتهجير السكان التي اتبعتها جغرافية الجزائر الريفية. عندما حرَّرْتُ تقريرا سنة 1959 كنت اقدر عدد المهجَّرين بمليون شخص ولكن هذا المليون اصبح مليونين في الواقع. لحسن الحظ فبعد نشر التقرير وما ترتب عنه من مناقشات حاولنا استدراك الوضع. فلم يبق الناس يموتون جوعا، بعد ان مات منهم في رأيي حوالي 200000 شخصا " (ميشال روكار، فرنسا ثقافة، يونيو 2003)

رابح دريوش بن محمد بن الطاهر

بعض المراجع حول هذا الموضوع :
1- "لنتكلم عن المحتشدات ولنفكر في الابادات"، صادق سلام، ألبان ميشال، 1999.
2- "تقرير عن معسكر تجميع السكان ونصوص أخرى حول حرب الجزائر"، ميشال روكار، الف ليلة وليلة، 2003.



Voir Décret 56-274 du 17 mars1956.




...ARTICLE DE PRESSE TELEMAG.RE...
Cf. "Parler des camps, penser les génocides",Sadek Sellam Albin Michel 1999.
Cf. "Rapport sur les camps de regroupement et autres textes sur la guerre d'Algérie",Michel Rocard, Mille et une nuits, 2003
RETOUR MENU


Réalisé par
Rabah Driouche
Mise à jour: 03/12/2006
Optimisée pour "Microsoft INTERNET EXPLORER -1024/768-"